فصل: وأما القسم الثاني وهو والذي يأتي في الكلام لغير فائدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.وأما القسم الثاني وهو والذي يأتي في الكلام لغير فائدة:

فهو ضربان: الضرب الأول: يكون دخوله في الكلام كخروجه منه لا يكتسب به حسنا ولا قبحا، فمن ذلك قول النابغة:
يقول رجال يجهلون خليقتي ** لعل زيادا لا أبا لك غافل

فقوله لا أبا لك من الاعتراض الذي لا فائدة فيه، وليس مؤثرا في هذا البيت حسنا ولا قبحا.
ومثله جاء قول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ** ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

وقد وردت هذه اللفظة وهي لا أبا لك في موضع آخر فكان للاعتراض بها فائدة حسنة كقول أبي تمام:
عتابك عني لا أبا لك واقصدي

فإنه لما كره عتابها اعترض بين الأمر والمعطوف عليه بهذه اللفظة على طريق الذم.
الضرب الثاني: وهو الذي يؤثر في الكلام نقصا، وفي المعنى فسادا وقد تقدم ذكر أمثاله وأنظاره في باب التقديم والتأخير، وإنما جيء بذكره هاهنا مكررا لإتمام التقسيم الاعتراضي فيما أفاد وفيما لا يفيد، وقد ذكرت من ذلك مثالا واحدا أو مثالين، فمما ورد منه قول بعضهم:
فقد والشك بين لي عناء ** بوشك فراقهم صرد يصيح

فإن هذا البيت من رديء الاعتراض ما أذكره لك، وهو الفصل بين قد والفعل الذي هو بين، وذلك قبيح، لقوة اتصال قد بما تدخل عليه من الأفعال ألا تراها تعد مع الفعل كالجزء منه، ولذلك أدخلت عليها اللام المراد بها توكيد الفعل، كقوله تعالى: {لقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك} وقوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه} وقول الشاعر:
ولقد أجمع رجلي بها ** حذر الموت وإني لفرور

إلا أن فصل بين قد والفعل بالقسم فإن ذلك لا بأس به، نحو قوله: قد والله كان ذاك وقد فصل هذا البيت أيضاً بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي هو عناء بقوله بين لي، وفصل بين الفعل الذي هو بين وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناء، فجاء معنى البيت كما تراه كأنه صورة مشوهة قد نقلت أعضاؤها بعضها إلى مكان بعض.
ومن هذا الضرب قول الآخر:
نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله ** إلى الغرب حتى ظله الشمس قد عقل

أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله إلى الغرب حتى عقل الشمس: أي حاذاها، وعلى هذا التقدير فقد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ الذي هو شخصي وبين خبره الجملة، وهو قوله ظله إلى الغرب، وأغلظ من ذلك أنه فصل بين الفعل وفاعله بالأجنبي، وهذا وأمثاله مما يفسد المعاني ويورثها اختلالا.
واعلم أن الناثر في استعمال ذلك أكثر ملامة من الناظم، وذاك أن الناظم مضطر إلى إقامة ميزان الشعر، وربما كان مجال الكلام عليه ضيقا، فيلقيه طلب الوزن في مثل هذه الورطات، وأما الناثر فلا يضطر إلى إقامة الميزان الشعري، بل يكون مجال الكلام عليه واسعا، ولهذا إذا اعترض في كلامه اعتراضا يفسده توجه عليه الإنكار، وحق عليه الذم.

.النوع التاسع عشر: في الكناية والتعريض:

وهذا النوع مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا.
وقد تكلم علماء البيان فيه، فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريص، ولم يفرقوا بينهما، ولا حدوا كلا منهما بفصله عن صاحبه، بل أوردوا لهما أمثلة من النظم والنثر، وأدخلوا أحدهما في الآخر فذكروا للكناية أمثلة من التعريض، وللتعريض أمثلة من الكناية، فممن فعل ذلك الغانمي وابن سنان الخفاجي والعسكري، فأما ابن سنان فإنه ذكر قول امرئ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامها ** ورضت فذلت صعبة أي إذلال

وهذا مثال ضربه للكناية عن المباضعة، وهو مثال للتعريض.
ووجدت في كتاب التذكرة لابن حمدون البغدادي وكان مشارا إليه عندهم بفضيلة ومعرفة، لا سيما فن الكتابة، فوجدت في كتابه بابا مقصورا على ذكر الكناية والتعريض، وما قيل فيهما نظما ونثرا، وهو محشو بالخلط بين هذين القسمين من غير فصل بينهما، وقد أورد أيضاً في بعضه أمثلة غثة باردة.
وسأذكر ما عندي في الفرق بينهما، وأميز أحدهما عن الآخر، ليعرف كل منهما على انفراده، فأقول: أما الكناية فقد حدت بحد، فقيل: هي اللفظ الدال على الشيء على غير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه، كاللمس والجماع، فإن الجماع اسم موضوع حقيقي واللمس كناية عنه، وبينهما الوصف الجامع، إذ الجماع لمس وزيادة، فكان دالا عليه بالوضع المجازي.
هذا الحد فاسد، لأنه يجوز أن يكون حدا للتشبيه، فإن التشبيه هو اللفظ الدال على غير الوضع الحقيقي لجامع بين المشبه والمشبه به وصفة من الأوصاف، ألا ترى أنا إذا قلنا: زيد أسد، كان ذلك لفظا دالا على غير الوضح الحقيقي، بوصف جامع بين زيد والأسد، وذلك الوصف هو الشجاعة ومن هاهنا وقع الغلط لمن أشرت إليه في الذي ذكره في حد الكناية.
وأما علماء أصول الفقه فإنهم قالوا في حد الكناية: إنها اللفظ المحتمل، يريدون بذلك أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى وعلى خلافه.
وهذا فاسد، فإنه ليس كل لفظ يدل على المعنى وعلى خلافه بكناية، دليل ذلك قول النبي: «إذا لم تستح فافعل ما شئت» فإن هذا اللفظ يدل على المعنى وعلى خلافه، وبيان ذلك أنه يقول في أحد معنييه: إنك إذا لم يكن لك وازع يزعك عن الحياء فافعل ما شئت، وأما معناه الآخر فإنه يقول: إذا لم تفعل فعلا يستحى منه فافعل ما شئت، وهذا ليس من الكناية في شيء فبطل إذا هذا الحد ومثال الفقيه في قوله: إن الكناية اللفظ المحتمل مثال من أراد أن يحد الإنسان فأتى بحد الحيوان، فعبر بالأعم وكذلك يقال هاهنا، فإن كل كناية لفظ محتمل، وليس كل لفظ محتمل كناية.
والذي عندي في ذلك أن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معا، ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى: {أو لامستم النساء} يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكل منهما يصح به المعنى، ولا يختل، ولهذا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة، وذلك هو الحقيقة في اللمس، وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع، وذلك مجاز فيه، وهو الكناية، وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا الحقيقة والمجاز، ويجوز حمله على كليهما معا، وأما التشبيه فليس كذلك، ولا غيره من أقسام المجاز، لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، ألا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد، لا يصح إلا على جانب المجاز خاصة، وذاك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى، لأن زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع والذنب والوبر والأنياب والمخالب.
وإذا كان الأمر كذلك فحد الكناية الجامع لها هو: أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز، بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز.
والدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع أن تتكلم بشيء وتريد غيره، يقال: كنيت بكذا عن كذا، فهي تدل على ما تكلمت به، وعلى ما أردته من غيره، وعلى هذا فلا تخلو إما أن تكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز، أو في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة، وليس لنا قسم رابع، ولا يصح أن تكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة، لأن ذلك هو اللفظ المشترك، وإذا أطلق من غير قرينة تخصصه كان مبهما غير مفهوم، وإذا أضيف إليه القرينة صار مختصا بشيء بعينه، والكناية أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إلى القرينة، لأنه يختص بشيء واحد بعينه لا يتعداه إلى غيره، وكذلك لا يصح أن تكون الكناية في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز، لأن المجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها، لأنه فرع عليها، وذلك اللفظ الدال على المجازين إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أو لا يكون لها شركة، فإن كان لها شركة في الدلالة فيكون اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء أحدها الحقيقة، وهذا مخالف لأصل الوضع، لأن أصل الوضع أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره، وهاهنا تكون قد تكلمت بشيء وأنت تريد شيئين غيره، وإن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا للوضع أيضا، لأن أصل الوضع أن تتكلم وأنت تريد غيره، فيكون الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به وعلى غيره، وإذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به، وهذا محال، فتحقق حينئذ أن الكناية أن تتكلم بالحقيقة وأنت تريد المجاز، وهذا الكلام في حقيقة الدليل على تحقيق أمر الكناية لم يكن لأحد فيه قول سابق.
واعلم أن الكناية مشتقة من الستر، يقال: كنيت الشيء، إذا سترته وأجري هذا الحكم في الألفاظ التي يستر فيها المجاز بالحقيقة، فتكون دالة على الساتر وعلى المستور معا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أو لامستم النساء} فإنه إن حمل على الجماع كان كناية لأنه ستر الجماع بلفظ اللمس الذي حقيقته مصافحة الجسد الجسد، وإن حمل على الملامسة التي هي مصافحة الجسد الجسد كان حقيقة، ولم يكن كناية، وكلاهما يتم به المعنى، وقد تأولت الكناية بغير هذا، وهي أنها مأخوذة من الكنية التي يقال فيها: أبو فلان، فإنا إذا نادينا رجلا اسمه عبد الله وله ولد اسمه محمد فقلنا: يا أبا محمد، كان ذلك مثل قولنا: يا عبد الله، فإن شئنا ناديناه بهذا، وإن شئنا ناديناه بهذا، وكلاهما واقع عليه، وكذلك يجري الحكم في الكناية، فإنا إذا شئنا حملناها على جانب المجاز، وإذا شئنا حملناها على الحقيقة، إلا أنه لا بد من الوصف لجامع بينهما، لئلا يلحق بالكناية ما ليس منها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} فكنى بذلك عن النساء، والوصف الجامع بينهما هو التأنيث، ولولا ذلك لقيل في مثل هذا الموضع: إن أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد، وقيل: هذه كناية عن النساء، ومن أجل ذلك لم يلتفت إلى تأويل من تأول قوله تعالى: {وثيابك فطهر} أنه أراد بالثياب القلب، على حكم الكناية، لأنه ليس بين الثياب والقلب وصف جامع، ولو كان بينهما وصف جامع لكان التأويل صحيحا.
فإن قيل فما الدليل على اشتقاق الكناية من كنيت الشيء، إذا سترته ومن الكنية؟ قلت في الجواب: أما اشتقاقها من كنيت الشيء إذا سترته فإن المستور فيها هو المجاز، لأن الحقيقة تفهم أولا، ويتسارع الفهم إليها قبل المجاز، لأن دلالة اللفظ عليها وضعية، وأما المجاز فإنه يفهم منه بعد فهم الحقيقة، وإنما يفهم بالنظر والفكرة، ولهذا يحتاج إلى دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ فالحقيقة أظهر، والمجاز أخفى، وهو مستور بالحقيقة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أو لامستم النساء} فإن الفهم يتسارع فيه إلى الحقيقة التي هي مصافحة الجسد الجسد، وأما المجاز الذي هو الجماع فإنه يفهم بالنظر والفكر، ويحتاج الذاهب إليه إلى دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، وأما اشتقاقها من الكنية فلأن محمدا في هذه الصورة المذكورة هو حقيقة هذا الرجل، أي الاسم الموضوع بإزائها أولا، وأما أبو عبد الله فإنه طار عليه بعد محمد، لأنه لم يكن له إلا بعد أن صار له ولد اسمه عبد الله، وكذلك الكناية، فإن الحقيقة لها هو الاسم الموضوع بإزائها أولاً في أصل الوضع، وأما المجاز فإنه طار عليها بعد ذلك، لأنه فرع، والفرع إنما يكون بعد الأصل، وإ، ما يعمد إلى ذلك الفرع للمناسبة الجامعة بينه وبين الأصل على ما تقدم الكلام فيه، وهذا القدر كاف في الدلالة على اشتقاق الكناية من ذينك المعنيين المشار إليهما.
فإن قيل: إنك قد ذكرت أقسام المجاز في باب الاستعارة التي قدمت ذكرها في كتابك هذا، وحصرتها في أقسام ثلاثة وهي: التوسع في الكلام، والاستعارة، والتشبيه، ونراك قد ذكرت الكناية في المجاز أيضا، فهل هي قسم رابع لتلك الأقسام الثلاثة أم هي من جملتها؟ فإن كانت قسما رابعا، فذلك نقص للحصر الذي حصرته، وإن كانت من جملتها فقد أعدت ذكرها هاهنا مرة ثانية، وهذا المكرر لا حاجة إليه.
فالجواب عن ذلك أني أقول: أما الحصر الذي حصرته في باب الاستعارة فهو ذاك، ولا زيادة عليه، وأما الكناية فإنها جزء من الاستعارة، ولا تأتي إلا على حكم الاستعارة الخاصة، لأن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له، وكذلك الكناية، فإنها لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المكنى عنه، ونسبتها إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام، فيقال: كل كناية استعارة، وليس كل استعارة كناية، ويفرق بينهما من وجه آخر، وهو أن الاستعارة لفظها صريح والصريح هو: ما دل عليه ظاهر لفظه، والكناية: ضد الصريح لأنها عدول عن ظاهر اللفظ، وهذه ثلاثة فروق أحدهما الخصوص والعموم، والآخر الصريح، والآخر الحمل على جانب الحقيقة والمجاز.
وقد تقدم القول في باب الاستعارة أنها جزء من المجاز، وعلى ذلك فتكون نسبته الكناية إلى المجاز نسبة جزء الجزء وخاص الخاص.
وكان ينبغي أن نذكر الكناية عند ذكر الاستعارة في النوع الأول من هذه الأنواع المذكورة في المقالة الثانية، وإنما أفردتها بالذكر هاهنا من أجل التعريض، لأن من العادة أن يذكرا جميعاً في مكان واحد.
وقد يأتي في الكلام ما يجوز أن يكون كناية، ويجوز أن يكون استعارة، وذلك يختلف باختلاف النظر إليه بمفرده والنظر إلى ما بعده، كقول نصر بن سيار في أبياته المشهورة التي يحرض بها بني أمية عند خروج أبي مسلم:
أرى خلل الرماد وميض الجمر ** ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالزندين تورى ** وإن الحرب أولها كلام

أقول من التعجب ليت شعري ** أأيقاظ أمية أم نيام

فإن هبوا فذاك بقاء ملك ** وإن رقدوا فإني لا ألام

فالبيت الأول لو ورد بمفرده كان كناية، لأنه يجوز حمله على جانب الحقيقة وحمله على جانب المجاز أما الحقيقة فإنه أخبر أنه رأى وميض جمر في خلل الرماد، وأنه سيضطرم وأما المجاز فإنه أراد أن هناك ابتداء شر كامن ومثله بوميض جمر من خلل الرماد، وإذا نظرنا إلى الأبيات جملتها اختص البيت الأول منها بالاستعارة دون الكناية.
وكثيرا ما يرد مثل ذلك ويشكل، لتجاذبه بين الكناية والاستعارة، على أنه لا يشكل إلا على غير العارف.
وأما التعريض فهو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم، لا بالوضع الحقيقي ولا بالمجازي، فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: والله إني لمحتاج وليس في يدي شيء وأنا عريان والبرد قد آذاني، فإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب، وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب، لا حقيقة ولا مجازا، إنما دل عليه من طريق المفهوم، بخلاف دلالة اللمس على الجماع، وعليه ورد التعريض في خطبة النكاح، كقولك للمرأة: إنك لخلية وإني لعزب، فإن هذا وأمثاله لا يدل على طلب النكاح حقيقة ولا مجازا، والتعريض أخفي من الكناية، لأن دلالة الكناية لفظية وضعية من جهة المجاز، ودلالة التعريض من جهة المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، وإنما سمي التعريض تعريضا من جهة المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، وإنما سمي التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرضه: أي من جانبه، وعرض كل شيء جانبه.
واعلم أن الكناية تشمل اللفظ المفرد والمركب معا، فتأتي على هذا تارة، وعلى هذا تارة أخرى، وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب، ولا يأتي في اللفظ المفرد ألبتة، والدليل على ذلك أنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، وإنما يفهم من جهة التلويح والإشارة، وذلك لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب، وعلى هذا فإن بيت امرئ القيس من ذلك أن يذكر الجماع، غير أنه لم يذكره، بل ذكره كلاما آخر يفهم الجماع من عرضه، لأن المصير إلى الحسنى ورقة الكلام لا يفهم منهما ما أراده امرؤ القيس من المعنى لا حقيقة ولا مجازا، وهذا لا خفاء به فاعرفه.
وحيث فرقنا بين الكناية والتعريض وميزنا أحدهما عن الآخر فلنفصلهما ونذكر أقسامهما، ولنبدأ أولاً بالكناية فنقول: اعلم أن الكناية تنقسم قسمين أحدهما: ما يحسن استعماله، والآخر ما لا يحسن استعماله، وهو عيب في الكلام فاحش.
وقد ذهب قوم إلى أن الكناية تنقسم أقساما ثلاثة: تمثيلا وإردافا، ومجاورة.
فأما التمثيل فهو أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ معنى آخر، ويكون ذلك مثالا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه، كقولهم، فلان نقي الثوب: أي منزه من العيوب.
وأما الإرداف فهو أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخر، ويكون ذلك إردافا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه ولازما له، فلان طويل النجاد: أي طويل القامة، فطول النجاد رادف لطول القامة ولازم له، بخلاف نقاء الثوب في الكناية عن النزاهة من العيوب، لأن نقاء الثوب لا يلزم منه النزاهة من العيوب، كما يلزم من طول النجاد طول القامة.
وأما المجاورة فهي أن تريد ذكر الشيء فتتركه إلى ما جاوره كقول عنترة:
بزجاجة صفراء ذات أسرة ** قرنت بأزهر في الشمال مفدم

يريد بالزجاجة الخمر، فذكر الزجاجة وكنى بها عن الخمر، لأنها مجاورة لها.
وهذا التقسيم غير صحيح، لأن من شرط التقسيم أن يكون كل قسم منه مختصا بصفة خاصة تفصله عن عموم الأصل، كقولنا الحيوان ينقسم أقساما منها الإنسان، وحقيقته كذا وكذا، ومنها الأسد وحقيقته كذا وكذا، ومنها الفرس وحقيقته كذا وكذا، ومنها غير ذلك، وهاهنا لم يكن التقسيم كذلك فإن التمثيل على ما ذكر عبارة عن مجموع الكناية، لأن الكناية إنما هي أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخر، ويكون ذلك اللفظ مثالا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} فإنه أراد الإشارة إلى النساء، فوضع لفظا لمعنى آخر، وهو النعاج، ثم مثل به النساء، وهكذا يجري الحكم في جميع ما يأتى من الكنايات، لكن منها ما يتضح التمثيل فيه وتكون الشبهية، بين الكناية والمكنى عنه شديدة المناسبة، ومنه ما يكون دون ذلك في الشبهية، وقد تأملت ذلك، وحققت النظر فيه، فوجدت الكناية إذا وردت على طريق اللفظ المركب كانت شديدة المناسبة واضحة الشبهية، وإذا وردت على طريق اللفظ المفرد لم تكن بتلك الدرجة في قوة المناسبة والمشابهة، ألا ترى إلى قولهم: فلان نقي الثوب، وقولهم اللمس كناية عن الجماع، فإن نقاء الثوب أشد مناسبة وأوضح شبها، لأنا إذا قلنا نقاء الثوب من الدنس كنزاهة العرض من العيوب اتضحت المشابهة ووجدت المناسبة بين الكناية والمكنى عنه شديدة الملاءمة، وإذا قلنا اللمس كالجماع لم يكن بتلك الدرجة في قوة المشابهة، وهذا الذي ذكر من أن من الكناية تمثيلا وهو كذا وكذا غير سائغ ولا وارد، بل الكناية هي ذاك، والذي قدمته من القول فيها وهو الحاصر لها، ولم يأت به أحدي غيري كذلك.
وأما الإرداف فإنه ضرب من اللفظ المركب إلا أنه اختص بصفة تخصه، وهي أن تكون الكناية دليلا على المكنى عنه ولازمه له، بخلاف غيرها من الكنايات، ألا ترى أن طول النجاد دليل على طول القامة ولازم له، وكذلك يقال: فلان عظيم الرماد: أي كثير الإطعام الطعام، وعليه ورد قول الأعرابية في حديث أم زرع في وصف زوجها: له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك، وغرض الأعرابية من هذا القول أن تصف زوجها بالجود والكرم، إلا أنها لم تذكر ذلك بلفظه الصريح، وإنما ذكرته من طريق الكناية على وجه الإرداف الذي هو لازم له.
وكذلك ورد في الأخبار النبوية أيضا، وذاك أن امرأة جاءت إلى النبي فسألته عن غسلها من الحيض، فأمرها أن تغتسل، ثم قال: «خذي فرصة من مسك فتطهري بها» قالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: «تطهري بها» قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: «سبحان الله تطهري بها» فاجتذبتها عائشة رضي الله عنها إليها، وقالت: تتبعي بها أثر الدم، فقولها أثر الدم كناية عن الفرج على طريق الإرداف، لأن أثر الدم في الحيض لا يكون إلا في الفرج، فهو إرداف له.
ومما ورد من ذلك شعرا قول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ** أبوها وإما عبد شمس وهاشم

فإن بعد مهوى القرط دليل على طول العنق.
ومن لطيف هذا الموضع وحسنه ما يأتي بلفظه مثل، كقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: مثلي لا يفعل هذا: أي أنا لا أفعله، فنفى ذلك عن مثله ويريد نفيه عن نفسه، لأنه إذا نفاه عمن يماثله ويشابهه فقد نفاه عن نفسه لا محالة، إذ هو ينفي ذلك عنه أجدر، وكذلك يقال: مثلك إذا سئل أعطى: أي أنت إذا سئلت أعطيت، وسبب ورود هذه اللفظة في هذا الموضع أنه يجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتا للأمر وتوكيدا، ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم يرس فيه قدمه، وهذا مثل قول القائل إذا كان في مدح إنسان: أنت من القوم الكرام: أي لك في هذا الفعل سابقة، وأنت حقيق به، ولست دخيلا فيه.
وقد ورد هذا في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} والفرق بين قوله: {ليس كمثله شيء} وبين قوله ليس كالله شيء هو ما أشرت إليه، وإن كان سبحانه وتعالى لا مثل له حتى يكون لمثله مثل، وإنما ذكرت ذلك على طريق المجاز قصداً للمبالغة.
وقد يأتي هذا الموضع بغير لفظة مثل وهي مقصودة، كقولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم: أي أنت لا تخفر الذمم، وهذا أبلغ من قولك أنت لا تخفر الذمم، وهذا أبلغ من قولك أنت لا تخفر الذمم، لما أشرت إليه.
وعلى نحو من هذا جاء قول أبي الطيب المتنبي:
ألست من القوم الذي من رماحهم ** نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل

وإذا فرغت من ذكر الأصول التي قدمت ذكرها فإني أتبعها بضرب الأمثلة نثرا ونظما، حتى يزداد ما ذكرته وضوحا.
فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم نحو قوله تعالى: «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا» فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله، فأما جعل الغيبة كأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جدا، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل لحم الإنسان لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة، وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهه آمران بتركها والبعد عنها، ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته، ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهته لحم أخيه، فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة، وأما جعل اللحم ميتا فمن أجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحس بها، وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها مع العلم بقبحها، فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبها، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها وجدتها مناسبة لها قصدت له.
وكذلك ورد قوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها} والأرض التي لم يطئوها كناية عن مناكح النساء، وذلك من حسن الكناية ونادره.
وكذلك ورد قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا} فكني بالماء عن العلم وبالأودية عن القلوب وبالزبد عن الضلال، وهذه الآية قد ذكرها أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الموسوم بإحياء علوم الدين وفي كتابه الموسوم بالجواهر والأربعين وأشار بها إلى أن القرآن الكريم إشارات إيماآت لا تنكشف إلا بعد الموت، وهذا يدل على أن الغزالي رحمه الله لم يعلم أن هذه الآية من باب الكنايات الذي لفظها يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز.
وقد رأيت جماعة من أئمة الفقهاء لا يحققون أمر الكناية، وإذا سئلوا عنها عبروا عنها بالمجاز وليس الأمر كذلك، وبينهما وصف جامع كهذه الآية وما جرى مجراها، فإنه يجوز حمل الماء على المطر النازل من السماء، وعلى العلم، وكذلك يجوز حمل الأودية على مهابط الأرض، وعلى القلوب، وهكذا يجوز حمل الزبد على الغثاء الرابي الذي تقذفه السيول، وعلى الضلال، وليس في أقسام المجاز شيء يجوز حمله على الطرفين معا سوى الكناية.
وبلغني عن الفراء النحوي أنه ذكر في تفسيره آية، وزعم أنها كناية، وهي قوله تعالى: {وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} فقال: إن الجبال كناية عن أمر رسول الله وما جاء به من الآيات، وهذه الآية من باب الاستعارة، لا من باب الكناية، لأن الكناية لا تكون إلا فيما جاز حمله على جانبي المجاز والحقيقة، والجبال هاهنا لا يصح بها المعنى إلا إذا حملت على جانب المجاز خاصة، لأن مكر أولئك لم يكن لتزول منه جبال الأرض، فإن ذلك محال.
وأما ما ورد منها في الأخبار النبوية فقول النبي: «إنه كانت امرأة فيمن كان من قبلنا، وكان لها ابن عم يحبها، فراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، حتى إذا أصابتها شدة فجاءت إليه تسأله، فراودها، فمكنته من نفسها، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة قالت له: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه» فقام عنها وتركها، وهذه كناية واقعة في موقعها.
ومن ذلك أيضاً قول النبي: «رويدك سوقك بالقوارير» يريد بذلك النساء، فكنى عنهن بالقوارير، وذاك أنه كان في بعض أسفاره وغلام أسود اسمه أنجشة يحدو، فقال له: «يا أنجشة رويدك بالقوارير» وهذه كناية لطيفة.
وكذلك ورد حديث الحديبية وذاك أنه لما نزل رسول الله على الركية جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من أهل تهامة، فقال: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، وهذه كناية عن النساء والصبيان، والعوذ: جمع عائذ، وهي الناقة التي وصعت وقوي ولدها، وهذا يجوز حمله على طريق الحقيقة، كما جاز حمله على طريق المجاز: أي معهم الأموال من الإبل، وهي كانت جل أموال العرب: أي أنهم أحضروا أموالهم ليقاتلوا دونها، ولما جاز حمل العوذ المطافيل على النساء والصبيان وعلى الأموال كان من باب الكناية.
ومن ذلك ما ورد في إقامة الحد على الزاني، وهو أن يشهد عليه برؤية الميل في المكحلة وذلك كناية عن رؤية الفرج في الفرج.
ومن لطيف الكناية أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت لها: أقيد جملي؟ فقالت عائشة رضي الله عنها، لا، أرادت المرأة أنها تصنع لزوجها شيئا يمنعه من غيرها: أي تربطه أن يأتي غيرها، فظاهر هذا اللفظ هو تقييد الجمل، وباطنه ما أرادته المرأة وفهمته عائشة منها.
وكذلك يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وذاك أنه جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: «وما أهلكك» قال: حولت رحلي البارحة فقال له النبي: «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة» ويروى أن عمرو بن العاص زوج ولده عبد الله رضي الله عنه، فمكثت المرأة عنده ثلاث ليال لم يدن منها، وإنما كان ملتفا إلى صلاته، فدخل عليها عمرو بعد ثلاث، فقال: كيف ترين بعلك؟ فقالت: نعم البعل إلا أنه لم يفتش لنا كنفا ولا قرب لنا مضجعا، فقولها: لم يفتش لنا كنفا ولا قرب لنا مضجعا من الكناية الغراء الظاهرة.
ومن ألطف ما بلغني في هذا القول عبد الله بن سلام، فإنه رأى على رجل ثوبا معصفرا، فقال: لو أن ثوبك في تنور أهلك أو تحت قدرهم كان خيرا، فذهب الرجل فأحرقه، نظرا إلى حقيقة قول عبد الله وظاهر مفهومه، وإنما أراد المجاز منه، وهو أنك لو صرفت ثمنه إلى دقيق تخبزه أو حطب تطبخ به كان خيرا، والمعنى متجاذب بين هذين الوجهين، فالرجل فهم منه الظاهر الحقيقي فمضى فأحرق ثوبه، ومراد عبد الله غيره.
ومن هذا القسم ما ورد في أمثال العرب كقولهم: إياك وعقيلة الملح، وذاك كناية عن المرأة الحسناء في منبت السوء، فإن عقيلة الملح هي اللؤلؤة وتكون في البحر فهي حسنة وموضعها ملح.
وكذلك قولهم: لبس له جلد النمر، كناية عن العداوة، وقد يقاس على هذا أن يقال: ليس له جلد الأسد، ولبس له جلد الذئب، ولبس له جلد الأرقم، لأن هذا كله مثل قولهم: لبس له جلد النمر، إذا العداوة محتملة في الجميع.
وكذلك قولهم قلب له ظهر المجن، كناية عن تغيير المودة.
ومما ورد في ذلك شعرا قول أبي النواس.
لا أذود الطير عن شجر ** قد بلوت المر من ثمره

وهذا حكاية، وهو أنه كان لأبي نواس صديقة تغشاه، فقيل له: إنها تختلف إلى آخر من أهل الريب، فلم يصدق ذلك حتى تبعها يوما من الأيام فرآها تدخل منزل ذلك الرجل، ثم إن ذلك الرجل جاءه، وكان صديقا له، فلكمه، فصرف وجهه عنه، ثم نظم قصيدته المشهورة التي مطلعها:؟ أيها المنتاب عن عفره وهذا البيت من جملة أبياتها.
وكذلك ورد قوله أيضا:
وناظرة إلي من النقاب ** تلاحظني بطرف مستراب

كشفت قناعها فإذا عجوز ** مموهة المفارق بالخضاب

فما زالت تحمسني طويلا ** وتأخذ في أحاديث التصابي

تحاول أن يقوم أبو زياد ** ودون قيامه شيب الغراب

أتت بجرابها تكتال فيه ** فقامت وهي فارغة الجراب

فقوله أتت بجرابها تكتال فيه من باب الكناية، إذا الجراب يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكذلك الكيل أيضا.
ومما جاء من هذا الباب قول أبي تمام في قصيدته التي يستعطف بها مالك بن طوض على قومه، ومطلعها:
أرض مصردة وأرض تثج

ما لي رأيت ترابكم يبس الثرى ** ما لي أرى أطوادكم تتهدم

فيبس الثرى كناية عن تنكر ذات البين، تقول: يبس الثرى بيني وبين فلان، إذا تنكر الود الذي بينك وبينه، وكذلك تهدم الأطواد فإنه كناية عن خفة الحلوم وطيش العقول.
ومن الكناية الحسنة قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي يعاتب فيها سيف الدولة بن حمدان التي مطلعها:
واحر قلباه ممن قلبه شبم

وشر ما قنصته راحتي قنص ** شهب البزاة سواء فيه والرحم

يشير بذلك إلى أن سيف الدولة يستوي في المنال منه هو وغيره، فهو البازي، وغيره الرخمة، وإن حمل المعنى على جانب الحقيقة كان جائزا.
وعلى هذا ورد قول الأقيشر الأسدي، وكان عنينا لا يأتي النساء وكان كثيراً ما يصف ذلك من نفسه، فجلس إليه يوما رجل من قيس، فأنشده الأقيشر:
ولقد أروح بمشرف ذي ميعة ** عسر المكرة ماؤه يتفصد

مرح يطير من المراح لعابه ** ويكاد جلد إهابه يتقدد

ثم قال له: أتبصر الشعر؟ قال: نعم، قال: فما وصفت؟ قال: فرسا، قال: أفكنت تركبه لو رأيته؟ قال: إي والله وأثني عطفه، فكشف له عن أيره، وقال: هذا وصفت، فقم فاركبه، فوثب الرجل من مكانه، وقال: قبحك الله من جليس سائر اليوم.
وكذلك أيضاً حكى أنه وفد سعيد بن عبد الرحمن على هشام بن عبد الملك، وكان جميل الوجه، فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد، فراوده عن نفسه، فوثب من عنده، ودخل على هشام مغضبا، وهو يقول:
إنه والله لولا أنت لم ** ينج مني سالما عبد الصمد

فقال: هشام: ولم ذلك؟ قال:
إنه قد رام مني خطة ** لم يرمها قبله مني أحد

قال: ما هي؟ قال:
راح جهلا بي وجهلا بأبي ** يدخل الأفعى على حبس الأسد

قال: فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئا لم أنكره عليك.
ومن ألطف ما سمعته في هذا الباب قول أبي النواس في الهجاء:
إذا ما كنت جار أبي حسين ** فنم ويداك في طرف السلاح

فإن له نساء سارقات ** إذا ما بتن أطراف الرماح

سرقن وقد نزلت عليه أيري ** فلم أظفر به حتى الصباح

فجاء وقد تخدش جانباه ** يئن إلي من ألم الجراح

فتعبيره عن العضو المشار إليه بأطراف الرماح تعبير في غاية اللطافة والحسن.
وقد أدخل في باب الكناية ما ليس منه، كقول نصيب:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

وهذا يروى عن الجاحظ، وما أعلم كيف ذهب عليه مع شهرته بالمعرفة بفن الفصاحة والبلاغة، فإن الكناية هي ما جاز حمله على جانب الحقيقة كما يجوز حمله على جانب المجاز، وهاهنا لا يصح ذلك، ولا يستقيم، لآن الثناء للحقائب لا يكون إلا مجازا، وهذا من باب التشبيه المضمر الأداة الخارج عن الكناية، والمراد به أن في الحقائب من عطاياك ما يعرب عن الثناء لو سكت أصحابها عنه.
وأما القسم المختص بما يقبح ذكره من الكناية، فإنه لا يحسن استعماله، لأنه عيب في الكلام فاحش، وذلك لعدم الفائدة المرادة من الكناية فيه.
فما جاء منه قول الشريف الرضي يرثي امرأة:
إن لم تكن نصلا فغمد نصال

وفي هذا من سوء الكناية ما لا خفاء به، فإن الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح ذكره، وهذا المعنى أخذه من قول الفرزدق فمسخه وشوه صورته، فإن الفرزدق رثى امرأته فقال:
وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ** عليه ولم أبعث إليه البواكيا

وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ** لو أن المنايا أمهلته لياليا

وهذا حسن بديع في معناه، وما كني عن امرأة ماتت بجمع أحسن من هذه الكناية ولا أفخم شأنا، فجاء الشريف الرضي فأخذ معناها وفعل به ما ترى، وليس كل من تصرف في المعاني أحسن في تصريفها، وأبقى هذه الرموز في تأليفها.
وقد عكس هذه القصة مع أبي الطيب المتنبي فأحسن فيما أساء به أبو الطيب طريق الكناية فأخطأ حيث قال:
إني على شغفي بما في خمرها ** لأعف عما في سراويلاتها

وهذه كناية عن النزاهة والعفة، إلا أن الفجور أحسن منها.
وقد أخذ الشريف الرضي هذا المعنى فأبرزه في أجمل صورة حيث قال:
أجن إلى ما تضمن الخمر والحلى ** وأصدف عما في ضمان المآزر

وأمثال هذا كثير، وفيما ذكرناه من هذين المثالين مقنع.
وأما التعريض فقد سبق الإعلام به، وعرفناك الفرق بينه وبين الكناية.
فما جاء منه قوله تعالى: {قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وغرض إبراهيم عليه صلوات الله من هذا الكلام إقامة الحجة عليهم، لأنه قال: {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وذلك على سبيل الاستهزاء، وهذا من رموز الكلام، والقول فيه أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يرد به نسبة الفعل الصادر عنه إلى الضم، وإثباته على أسلوب التعريض يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجة عليهم، والاستهزاء بهم، وقد يقال في هذا غير ما أشرت إليه، وهو أن كبير الأصنام غضب أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها، وغرض إبراهيم عليه السلام من ذلك أنه لا يجوز أن يعبد مع الله تعالى من هو دونه، فإن من دونه مخلوق من مخلوقاته، فجعل إحالة القول إلى كبير الأصنام مثالا لما أراده.
ومن هذا القسم أيضاً قوله تعالى: {قال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشر مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} فقوله: {ما نراك إلى بشر مثلنا} تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها؟ ألا ترى إلى قولهم: {وما نرى لكم علينا من فضل} وكان مروان بن الحكم واليا على المدينة من قبل معاوية فعزله فلما قدم عليه قال له: عزلتك لثلاث لو لم تكن إلا واحدة منهن لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تشتفي منه، والثانية كراهتك أمر زياد، والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمر بن عثمان فلم تعدها، فقال له مروان: أما عبد الله بن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني، ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موضعه، وأما كراهتي أمر زياد فإن سائر بني أمية كرهوه، وأما استعداء رملة على عمر بن عثمان فوالله إنه لتأتي على سنة وأكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا، يريد بذلك أن رملة بنت معاوية إنما استعدت لطلب الجماع، فقال له معاوية: يا ابن الوزغ لست هناك، فقال له مروان: هو ذاك، وهذا من التعريضات اللطيفة.
ومثله في اللطافة ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذاك أنه كان يخطب يوم جمعة، فدخل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عمر: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل، فقوله: «أية ساعة هذه» تعريض بالإنكار عليه لتأخره عن المجيء إلى الصلاة وترك السبق إليها، وهو من التعريض المعرب عن الأدب.
ووقفت في كتاب العقد على حكاية تعريضية حسنة الموقع، وهي أن امرأة وقفت على قيس بن عبادة فقالت أشكو إليك قلة الفأر في بيتي، فقال: ما أحسن ما ورت عن حاجتها، املئوا لها بيتها خبزا وسمنا ولحما.
ومن خفي التعريض وغامضه ما ورد في الحديث النبوي، وهو أن النبي خرج وهو محتضن أحد ابني ابنته، وهو يقول: «والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطئها الله بوج» العم أن وجا واد بالطائف والمراد به غزوة حنين، وحنين: واد قبل وج، لأن غزاة حنين آخر غزاة أوقع بها رسول الله مع المشركين، وأما غزوتا الطائف وتبوك اللتان كانتا بعد حنين فلم يكن فيهما وطأة، أي قتال، وإنما كانتا مجرد خروج إلى الغزو من غير ملاقاة عدو ولا قتال، ووجه عطف هذا الكلام وهو قوله: «وإن آخر وطأة وطئها الله بوج» على ما قبله من الحديث هو التأسف على مفارقة أولاده، لقرب وفاته، لأن غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان، ووفاته كانت في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وبينهما سنتان ونصف، فكأنه قال: وإنكم لمن ريحان الله: أي من رزقه، وأنا مفارقكم عن قريب، إلا أنه صانع عن قوله وأنا مفارقكم عن قريب بقوله: «إن آخر وطأة وطئها الله بوج» وكان ذلك تعريضا بما أراده وقصده من قرب وفاته ومما ورد من هذا الباب شعرا قول الشميذر الحارثي:
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ** دفنتم بصحراء الغمير القوافيا

وليس قصده هاهنا الشعر، بل قصده ما جرى لهم في هذا الموضع من الظهور عليهم والغلبة، إلا أنه لم يذكر ذلك بل ذكر الشعر، وجعله تعريضا بما قصده: أي لا تفخروا بعد تلك الواقعة التي جرت لكم ولنا بذلك المكان.
ومن أحسن التعريضات ما كتبه عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون في أمر بعض أصحابه، وهو: أما بعد، فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول في إلحاقه بنظرائه من الخاصة، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته، فوقع المأمون في ظهر كتابه: قد عرفت تصريحك وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما.
واعلم أن هذين القسمين من الكناية والتعريض قد وردا في غير اللغة العربية، ووجدتهما كثيراً في اللغة السريانية، فإن الإنجيل الذي في أيدي النصارى قد أتى منهما بالكثير.
ومما وجدته من الكناية في لغة الفرس أنه كان رجل من أساورة كسرى وخواصه فقيل: إن الملك يختلف إلى امرأتك، فهجرها لذلك، وترك فراشها فأخبرت كسرى، فدعاه وقال له: قد بلغني أن لك عينا عذبة وأنك لا تشرب منها، فما سبب ذلك؟ قال أيها الملك بلغني أن الأسد يردها فخفته، فاستحسن كسرى منه هذا الكلام وأسنى عطاءه.